تريند 🔥

🌙 رمضان 2024

قياس الوقت – رحلة في تاريخ الحضارة

أحمد رسلان
أحمد رسلان

23 د

لطَالمَا كان الزمانُ مفهُوماً غَامِضاً ومُزعجاً في آنٍ للإنسان، فهو غامضٌ بإغراقِه في التجِّريد، ومزعج لأنه مهما كان عزاءُ للإنسَان عن هُمُومِ الحَاضِر، ووعداً بأفقِ أملٍ ممكن في المستقبل، هُو تذكيرٌ للإنسان بالحَقِيقَةِ الأكثر إيلاماً، وهي الفَنَاءُ الذي يحدُّ وُجَوده قَطعاً. فقد جعل أرسطو من الزَّمانِ لذلك ضِداً للوجودِ، فنفاهُ إلى الأَجْرَامِ الخَارجِيِّة، وجعل منه نتاجاً مجرداً لحركتِها الدَّائِبة، أما الإلَه، أو المُحرِّك الأول، فهو إذن ذاكَ المحرِّك الذي لا يتحرك ولا يَخضعُ للزمّن.

لم يستطِع أَرسطُو مع ذلك إدراك ماهيَّة الزمن، القصد إليه في ذاتِه، فقد نظر إليه كَنِتاجٍ زائفٍ للحركة؛ إنه لا يمسُّ جوهرَ الوجودِ المطلق، مبادئِ الوجودِ كلها: الإلَه والنفس وحتى المادة في ذاتها التي وُجِدت قبل الزمن. فهل كان حقاً لا زمن قبل أن تتحرك الأجرام؟! لقد صرنا نعرف منذ أينشتاين، أن الزمان نسبي. إنها حقيقة تبدو مباشرةً وقاطعةً، وغير قابلة للتصورِ في الوقت نفسه. فلا يمكننا أن نعيش حياةً طبيعيةً دون أن نعرف الوقت، وأن نعرف أن أعمارنا مرَّت، وأننا على موعد مع حدث ما عند آنة زمنية محدَّدة بالوقت.

وربَّما، لم تكن الأفكار الفلسفلية بخصوص الزمن تؤرِّق الإنسان قديما، ففي العصورِ السحيقةِ، كانت الطبيعة شديدة القسوة، لا تمنحه فرصةً للتفكرِ بين محاولاتِه الدائمة للهرب، بحثاً عن أمنٍ جسديٍ وضمانٍ مستقبليٍ للسلاسة. لكن هذا لم يمنعه من التأمل أحيانا، فتعاقبِ النهار والليل هو المتحكم في نمط حياته آنذاك. لكن، ومع تحسن الظروف، بدأ يستقر، وينظر للسماء، فوجد أنها غير ثابتة. وكان هذا هو المتغير الثاني الذي سيبدأُ به حسابَ عمرِه، وعد خطواته التي تتجه حثيثا نحو الفَناء.
لن نتحدث هنا عن فلسفة الزمن، لكننا سنبدأ سويا رحلة خاطفة عبره – في تاريخ البشرية – لنتعرف على قصص أهم الحضارات مع طرق حساب الزمن.


الإنسان البدائي لم يكن بدائيا تماما!

كانت الظواهر الطبيعية وتغيرات الطقس هي التغير الدوري الملاحظ جيدا من قِبَل الإنسان البدائي. فكان التعاقب بين الصيف والشتاء، وبين الجاف والمطير، مع حركات الرياح الموسمية، وهجرة الطيور والحيوانات، ومواسم تزاوجها المرتبطة بظروف بيئية معينة، مع تكرار فيضانات الأنهار بشكل منتظم، وحتى ازهرار الأشجار وبراعم النباتات، كلها كانت علامات يعتمد عليها الإنسان البدائي في تقسيم الوقت، ومعرفة مختلف المواسم، ولم يكن حينها قد تبين له مفهوم “العام”. وكانت أطوار القمر هي الشيء التالي في الملاحظة، وهي مراحل مستمرة دائما وبشكل متكرر على فترات متساوية مهما تغيرت الفصول. وهناك دلائل علمية تؤكد أن الإنسان في العصر الحجري القديم “Paleolithic” كان يعتمد في تقسيم وقته على هذا الثبات في حركة القمر، فكان التقويم القمري “lunar calendar” هو أول تقويم استخدمه الإنسان. وبسبب تكرار الفصول، اعتبر الإنسان أن السنة على هذا التقويم تنقسم إلى اثنيْ عشرَ أو ثلاثة عشرَ شهرا. وكانت بداية كل شهر قمري مرتبطة ببزوغِ الهلال في الأفق. وتثبت الأدلة الأثرية مدى قِدم التقويم القمري، ففي عام 2013 وجد العلماء في اسكوتلاند في منطقة “Warren Field” تكوينا حجريا صغيرا “mesolithic arrangement” اعتبره العلماء أقدم تقويم بشري معروف، مقسما على هيئة مراحل القمر المختلفة، وتم تأريخه لـ 10000عام تقريبا، أي أنه ينتمي للعصر الحجري القديم. وفي 2003، اكتشف العلماء في جامعة برلين خريطة نجمية لمجموعة الرجل الجبار، نُحِتَتْ على قرنٍ عاجيٍّ لـماموث، ويعود تاريخها إلى 32000 سنة ماضية، ومن المدهش أيضا وجود علامات منحوتةٍ على وجهها الخلفي يُعتَقَدُ أنها استُخدِمَت في حساب ميعاد الإنجاب، وربما كان هذا القرن العاجيُّ من أعجب ما تركه لنا إنسان العصور الحجرية القديمة.


وبدأ الإنسان يستقر!

مع انتهاء العصر الجليدي، أخذت الظروف البيئية في التحسن. وبدأ إنسان العصر الحجري الحديث في الاستقرار نسبيا، مع الاعتماد على الزراعة وعلى تدجين الحيوانات لتوفير الغذاء، كما بدأ يُصنِّع بعض الأدوات الزراعية من الحجارة. وفي تلك الفترة بدأت نظرة الإنسان للوقت تختلف، وذلك لأن إتقان الزراعة يحتاج لمعرفة توالي الفصول بدقة، فبدأ الإنسان في ربط الفصول المختلفة بحركة الشمس في السماء. وبدأ حساب الوقت باستخدام التقويم الشمسي، أو التقويم القمري المعدل “Lunisolar calendars”، حيث كان يضاف للعام شهرا زائدا، كل عامين أو ثلاثة أعوام، لكي تتزامن الأعوام القمرية مع العام الشمسي. ووصل الإنسان وقتها لطريقة لحساب أوقات الاعتدال الربيعي والخريفي وأيضا الانقلاب الصيفي والشتوي، وترك لنا تراثاً أثرياً وإنسانياً عظيما متعلقا بهذا المجال، ممثلا في هياكل حجرية عملاقة مركبة بطرق يدوية بحتة تسمى “megalith”. والــ “megalith” يتواجد بعدة أشكال في عدة دول، وله العديد من الاستخدامات، كمعابد أو كمقابر، وعندما فحص العلماء بعضَهم، وجدوا أنها هندسيا تماثلُ – وبشكل دقيق جدا – أيام الإعتدالات والانقلابات الفصلية، أو مراحل القمر في السماء. ومن أشهر تلك الهياكل الـ “Stonehenge” في انجلترا، وأيضا هيكل “Nabta Playa” في صحراء النوبة في مصر، والذي كان يحدد بدقة يوم الانقلاب الصيفي.

ثم عمّر الأرض


الزراعة هي المحرك الرئيسي لبلاد الرافدين وبلاد فارس

صورة 3

مع العصر البرونزي، بدأت الحضارات القديمة الكبرى في النشوء، وطور الإنسان الكتابة، وبدأ تسجيل التاريخ. وكانت الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين (منطقة العراق حاليا) من أهم الحضارات في ذلك الوقت. وطورت كلا منهما تقويما خاصا يناسب احتياجاتهما. فكان التقويم السومري القديم “ancient Sumerian calendar” مقسما إلى اثنيْ عشر شهرا قمريا، كل منهم يتكون من 29 أو 30 يوما، ويبدأ كل شهر مع ظهور الهلال الجديد. ولم يكن للأشهر في التقويم السومري القديم أسماءً محددة، وذلك بسبب تنوع القناعات الدينية في المناطق المختلفة من أرض سومر، ولهذا أطلق عليهم تاريخيا الشهر الأول حتى الشهر الثاني عشر. وكان يضاف شهرٌ طوله 62 يوما كل ستة أعوام سومرية حفاظاً على التزامن بين العام الشمسي والقمري. ولم يكن الشهر مقسما إلى أسابيع، لكن كانت الأيام الأول والسابع والخامس عشر من كل شهر أياما مقدسة تُتَّخذ عطلة، كما كانت هناك عطلات أخرى تختلف من مدينة لمدينة. وكان اليوم مقسما إلى اثنتيْ عشْرة ساعة، ستُّ ساعات للنهار، وست ساعات لليل. ويختلف طول الساعة حسب طول النهار والليل، والذي يتغير على مدار فصول العام.

وفي القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ورثت الحضارةُ البابلية الحضارةَ السومرية في بلاد الرافدين. وكان التقويم البابلي قمريا معدلا، يتكون من 12 شهرا يبدأ كل منهم مع رؤية الهلال في الأفق، مع إضافة شهر إضافي كل فترة، كلما فارق العام تزامنه مع العام الشمسي. وكان العام يبدأ مع الربيع ويقسم لثلاثة أقسام كبيرة. وكان البابليون يحتفلون بكل سابع يوم، ويطلقون عليه اليوم المقدس، أو يوم الشيطان. وفيه يُحظر العمل على الموظفين الرسميين !.. كما تقام الصلوات للآلهة، فاليوم السابع مخصص للإلهين مردوخ “Merodach” وعشتار “Ishtar”، الرابع العاشر لنينلين “Ninlil” ونرجال “Nergal”، أما سين “sin” وشاماس “Shamash” ففي اليوم الحادي والعشرين، وإنكي “Enki” و ماه “Mah” في الثامن والعشرين، وهو يوم الراحة.

كانت الديانة الزرادشتية هي السائدة في بلاد فارس في فترة ما قبل الميلاد، ولها تقويمها الخاص أيضا. وهو يشبه التقويم البابلي كثيرا، لكنه كان يتبع دورة مكونة من تسعة عشر عاما، يضاف فيها الشهر الإضافي في العام الثالث والسادس والثامن والحادي العشر والرابع عشر والسابع عشر والتاسع عشر. وكان عامهم يبدأ مع الاعتدال الربيعي. وطور أهل فارس العديد من أدوات قياس الوقت، فقد ابتكروا ساعات دقيقة لحساب الوقت اللازم لري الأراضي، وذلك لضمان عدالة تقسيم مياة قنوات الري بين المزارعين. ومن تلك الساعات ساعة مائية تسمى الفنجان “Fenjaan”. ويُختارُ لها حفظة يقيسون الوقت بشكل أمين ودائم. ويجلس حفظة الفناجين في مكان يسمى “khaneh fenjaan” يكون في دور علوي من منزل كبير وسط القرى، مزوداً بنوافذ تطل على الشرق والغرب لمتابعة حركة الشمس.


الحضارة المصرية تخترع أقدم الساعات

أول تقويمٍ مصريٍ قُسم فيه العام لستة وثلاثين قسما متساويا كل منهم عشرة أيام، وذلك حسب مجموعة النجوم التي تظهر ليلا عند الأفق، والتي أُطلق عليها “سيبو شيبسو” وتعني النجوم السامية. وفي 2900 قبل الميلاد تبنى المصرييون تقويما مكوناً من 365 يوما، مقسما إلى اثنتي عشرة شهرا كل منهم مكونٌّ من ثلاثين يوماً، بجانب شهرٍ إضافيٍّ مكونٍّ من خمسة أيام. وكان الشهر مقسما إلى ثلاثة أقسام، كل منها عشرة أيام، يقسم اليوم فيها إلى فترتين، كل فترةٍ تقسم إلى اثنتيْ عشرة ساعة. وكان العام المصري القديم مقسما لثلاثة فصول:” akhet” وهو موسم الفيضان، و”peret” وهو موسم الشتاء وانتظار نمو النباتات، و”shemu” وهو موسم الصيف والحصاد. وبسبب نبوغ كهنة المصريين القدماء في علم الفلك ومراقبة النجوم، كان التقويم المصري دقيقا حتى أنه كان يفارق التقويم الشمسي بربع يومٍ فقط في السنة. وكانت بداية العام تعتمد على الشروق النجمي “heliacal rising” للنجم “Sothis”، والذي يعتقد علماء المصريات أنه نجم الشعرى اليمانية “Sirius”، وبُنِي معبد “إيزيس” لرصد أول شعاع للشعري اليمانية، ليقيم المصريون احتفالاتهم الرسمية والشعبية احتفالا بالعام الجديد. وظل الفلاح المصري يعتمد على التقويم المصري في زراعته وفي تحديد مواعيد فيضان النيل حتى وقتٍ قريبٍ للغاية.

وبدأ المصري القديم يطور ساعاته الخاصة. وتعود أقدم الساعات المعروفة للحضارة المصرية القديمة. فقد عُثِر على أقدم مزولة “sundial” في العالم في وادي الملوك بالأقصر، ويعود تاريخها إلى العام 1500 قبل الميلاد. كما أن المسلات المصرية “obelisks” تعتبر أيضا من أقدم الساعات في التاريخ، وكلاهما من الساعات المعتمدة على الظل “shadow clocks”؛ وتقيس مرور الوقت بالنهار فقط. وبسبب هذا القصور، اخترع المصريون القدماء ساعات أخرى كالساعة المائية والتي اخترعها أمنمحات – القاضي المصري – في القرن السادس عشر قبل الميلاد، ووجدت مرسومة على جدران مقبرته. كما وجدت أقدم ساعة مائية في قبر الملك أمنحتب الأول، وتعتمدُ على معدل تسرب الماءِ في وعاءٍ مثقوب بشكل دقيق، ومرسومٍ عليه مقياساً لمستوى الماء. كما اخترع المصريون القدماء في القرن السادس قبل الميلاد ساعة تعتمد على حركة النجوم ليلا تسمى مرخت “merkhets” وشُرحت طريقة استخدامها على جدران معبدي دندرة وإدفو.


الصين بين الامبراطور والدين

ننتقل من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، حيث تعد الحضارة الصينية أحد أقدم الحضارات البشرية. وفي الصين القديمة، وقبل فترة الربيع والخريف (https://en.wikipedia.org/wiki/Spring_and_Autumn_period) كان الصينيون يعتمدون على تقويم شمسيٍّ خماسيِّ الفصول. وكان العام الصيني آنذاك يتكونُ من عشرةِ أشهرٍ مدة كل منهم 36 يوما، مع مرحلة انتقالية لمدة 5 إلى 6 أيام. وبعدها – خلال حقبة الممالك المتحاربة وفي عهد الإمبراطور “Zhou dynasty” – تطور التقويم الصيني ليصبح تقويما قمريا مُعدّلاً. وتم استخدام مجموعة تقاويم تُعْرف بالتقاويم الستة القديمة “six ancient calendars”، والتي نُسَِبت أسماؤها للحكام، كتقويم الإمبراطور الأصفر “Yellow Emperor’s calendar”، وتقويم ين “Yin’s calendar”. وكان الشهر يبدأ مع اختفاء القمر، وكان العام يحتوي على 12 أو 13 شهر. واختلفت التقاويم الستة القديمة في تحديد بداية العام، ففي تقويم الإمبراطور الأصفر يبدأ العام الجديد مع بداية فصل الربيع، بينما في عام ين يبدأ مع الانقلاب الشتوي. وكان الصينيون يطلقون أسماء الحيوانات على أعوامهم، كعام التنين وعام النمر وعام الأرنب وعام الثور. وهذا من منطلق إيمانهم بأن صفات تلك الحيوانات تنعكس على مواليد هذا العام. وطوَّرَ الصينيون الكثير من أنواع الساعات المائية والميكانيكية، بجانب الساعات البخورية “Incense clocks”، والتي كانت تعتمد على معدل احتراق البخور لحساب مرور الوقت، وتستخدم خصيصا في الطقوس الدينية في المعابد أو المنازل. كما طوروا في القرن السابع ساعات مائية ميكانيكية تستخد ممثبت ميزان الساعة “escapement” بناها الراهب والمهندس “Yi “Xing. وطوِّر “Zhang Sixun” و “Su Song” تلك الساعات في القرنين العاشر والحادي عشر بعد الميلاد- باستبدال الماء بزئبق – للتغلب على مشكلة تأثر معدل تدفق الماء بدرجة الحرارة، وقاما ببناء ساعات برجية عملاقة تصدر صوتا كل ربع ساعة أو كل ساعة. وقام “Su song” أيضا بصناعة ساعات فلكية – اسطرلاب – تستخدم لمعرفة الوقت وتحديد أماكن النجوم في السماء.


الهند تستخدم تقويمها الخاص حتى الآن

نذهب الآن إلى الهند، حيث كانت امبراطورية جوبتا “Gupta era” في القرون من الرابع للسادس الميلادي صاحبة الدور الأهم في نشأة الثقافة الهندية. وللهند الكثير من التقاويم، والتي يعود أساسها كلها لتلك الحقبة. ولعالِمَيْ الفلك الهنديين أريباهاتا “Aryabhata” و فاراهاميهارا “Varāhamihira” دوراً كبيراً في تأسيس التقويم الهندي في القرنيْن الخامس والسادس. والتقويمُ الهنديُّ القديمُ مبنيٌّ على أساسٍ نجميٍّ، إلا أنه تقويمٌّ قمريٌّ معدل. وكان أساسا للعشراتِ من التقاويمِ المختلفة حسْبَ المناطقِ والأعراقِ والجماعات الدينية المختلفة التي تُمَيّزُ الهند. فكان هناك التقويم البوذيُّ والنيبالي والبِنغالي والسيريلانكي والتايلاندي. وتشتركُ جميعُ التقاويمِ في أسماء الشهور الاثني عشر، والمأخوذة من اللغة السنسكريتية “Sanskrit” أو اللغة الهندوسية المقدسة. وقُسِّمَ العامُ إلى ستةِ فصولٍ، مع إضافة شهر كل ثلاثة أعوام لمزامنة العام الهندي مع العام الشمسي، ويسمى “Adhik Mass” أو الشهر الزائد. وكانت الأيام تسمى طبقا لخمسة تصنيفات أو أذرع “aṅgas” حسبَ خصائصِها المرتبطة بمراحل القمر، ووقتِ شروقِه وعلاقته بالمجموعات النجمية. كما يتميزُ التقويم الهندي بإطلاقِ أسماء على السنوات، فتُوجَدُ دورةٌ تُسَمَّى “Samvatsara” مكونة من ستين اسمٍ للسنوات، وتُكَرَّرُ دوريا. والأسماءُ مستوحاةٌ من مكان المشترى نسبةً للشمس ونجوم السماء، ونحن الآن في عام Manmatha.


الميثولوجيا اليونانية تتحكم

الآن سننطلقُ سوياًّ إلى أوروبا ما قبل الميلاد، وسنتحدث عن اليونان، والتي تعاقبت عليها العديد من الحضارات، بدءاً من كونها عدة مدن صغيرة متحاربة ككريت ورودس وأثينا، ثم الحضارة الإغريقية، فالحقبة الهيلينية، والتي انتهت بوفاة الإسكندر الأكبر، لتبدأ الحقبة الهيلينستية، واستمرت حتى تغلَّبَتْ الحضارة الرومانية.

واليونان القديمة في زمن الشاعر الأسطوري هوميروس كانت تنقسم إلى العديد من المدن المتناحرة، وكلٌّ منها له التقويم الخاص به. وكان الأساس هو التقويم اليوناني القديم، وكان تقويما قمريا، يقسم فيه العام إلى اثنيْ عشرَ شهراً قمرياً. وكان اليونانيون القدامى يقسمون كل شهر إلى فتراتٍ حسب مرحلة القمر، ويبدأ الشهر مع ظهور القمر الجديد. وكانت بداية العام وأسماء الشهور تختلف في اليونان القديمة من مدينة لمدينة، كما كان بعضُهم لا يطلقُ الأسماء على الشهور، بل يستخدمون الأرقام. وكانت الألعاب الأولمبية اليونانية تُقامُ كلَّ أربعةِ أعوامٍ في تقليدٍ بدأ منذ القرن الثامن قبل الميلاد، تكريماً للإلهِ زيوس “Zeus” ملك الآلهة.

لكن اختلف الوضع في مدينة أثينا، فقد استخدموا أكثرَ من تقويم حسب الغرض. فكان التقويم الاحتفالي festival” calendar” قمرياً مُعدّلاً، يبدأ فيه العام يوم الانقلاب الصيفي، ويستمرُّ 354 يوما، تتبادلُ فيه الشهور أطوالها بين 29 أو 30 يوماً، مع إضافةِ شهرٍ إضافيٍّ كل عامين لحفظ التزامن مع التقويم الشمسي. وكانت شهورُ هذا العام تُسَمّى حسب الآلهة والاحتفالات الدينية، كبوسيديون “Poseidon” إله البحار، و سكيرفوريون “Skirophorion” رسول زيوس. وكان التقويم السياسي “conciliar calendar” مُقَسَّماً إلى أقسامٍ تُسَّمَى “prytanies”، وكلُّ واحدةٍ تخصُّ قبيلةً أو عشيرةً في أثينا. ويتغير عدد تلك الأقسام كلَّ فترةٍ حسبَ تغيُّرِ الجغرافيَّةِ السكانيّة للمدينة مع الوقت. واستمر الوضعُ هكذا مع بعضِ التغيُّراتِ الطفيفة، حتى نهايةِ الحِقْبةِ الهيلينيّة، ووفاة الإسكندر الأكبر. ولم يتغير الوضع كثيرا في العصر الهيلينستي، فكانت كلُّ منطقةٍ من بلاد اليونان لها تقويمُها الخاص. وربما كان أهمُّهم بالنسبة لنا هو تقويم دلفي “calendar of Delphi”، والذي وجد الأثريّونَ الكثيرَ من السجلاتٍ السياسية الأثرية تستخدمُه.


الهيمنة العسكرية للحضارة الرومانية

ننتقل الآن إلى روما، حيث يعْتَقَدُ أنَّ أولَ تقويمٍ عَمِلَت به هو تقويم رومولوس “Calendar of Romulus”، والذي يُعتَقَدُ أيضا أنه – بمساعدة أخيه – أسس روما في القرن الثامن قبل الميلاد. وكان العام فيه مُكَوَّناً من عشرة أشهُر، ويستمر لمدة 304 يوماً تبدأ مع الاعتدال الربيعي. وكانت الأيام المتبقية في الشتاء بعد نهاية العام وحتى مجيءَ الربيعِ غيرَ محسوبةٍ تِبْعاً لأي شهر. وكانت أسماء الشهورِ نابعةُ من الثقافة الرومانية، فكان شهر مارتيس “Martius” منسوبا للإله “Mars” إله الحرب وحامي المراعي، وشهر أبريليس “Aprilis” يعني تفتُّحَ الأرضِ لِتَلقّي البذور، وشهر مايا “Maia” هو شهر إلهة النمو. ثم جاء الملك نوما بومبيلس “Numa Pompilius” – الملك الثاني من ملوك روما السبع – لِيُطَوِّرَ تقويمَ رومولوس، بتقسيمِ الأيام غيرِ المُوَزَّعة مُسْبقاً على شهرين أسماهما إينوريوس “Ianuarius” و فبراريوس”Februarius”، وأعطى فبراريوس عدداً مُمَيّزاً من الأيام – 29 يوما – ليكونَ شهرَ الاحتفالات الدينية وعيدَ التَطُّهِرِ من الذنوب “Februa”، والذي سُمِيَ نسبةً له.

انتقلت روما بعد ذلك إلى النظام الجمهوري. وكان النظام يقتضي أن تختار طبقة النبلاء مجلساً للشيوخ، ومن ثَمَّ يختارُ مجلس الشيوخ قنصلين، مهمتُهُما اقتسامَ رئاسةِ المجلس والدولة، واتخاذِ القرارات. وكان تقويم الجمهورية الرومانية مبنِياَّ على اختيار القناصل، فكانت الأعوام تُسَمَّى بأسماء القناصل – والذينَ تستمرُّ مهمَّتُهم لمدة عام كامل – وكان الأسبوع في هذا التقويم يتكون من ثمانيةِ أيام، ويفصل بينَ كلِّ أسبوع وآخرَ يومٌ تاسعٌ يُسَمَّى يوم السوق.

في عهدِ حكمِ القنصل يوليوس قيصر “Julius Caesar”، قرَّرَ – عام 46 قبل الميلاد – تغييرَ التقويمِ الروماني نظراً لعدم دِقتِّه، ومخالفتِهِ للعام الشمسي. وكان الفلكيُّ سوسجينيس الإسكندري “Sosigenes of Alexandria” هو من اكتشف ذلك بعد اطّلاعِهِ على كتب الفلك المصرية. فأسس قيصر التقويمَ اليولياني “Julian Calendar” والمنسوب إليه. ويتكون التقويم اليولياني من 365.25 يوما، ويبدأ في أول شهر إينوريوس. وبدأ العملُ به في أنحاء الإمبراطورية الرومانية العملاقة وقتها بعد احتلال مصر في عام 45 قبل الميلاد. والتقويمُ اليُوليانيُّ هو الأكثر دقةً ومطابقةً للسنة الشمسية وقتَ تطبيقه، خصوصاً بعد أن طُبِّقَ مفهومَ السنةِ الكبيسة “Leap Year”، بإضافة يومٍ زائدٍ في شهر فبراير كلَّ أربعة أعوام. وكان التقويم يُسْتَخْدَمُ في تنظيمِ التحركات العسكرية، وتحديدِ مواعيد الأعياد الدينية، بينما كانت أعمال الزراعة مازالت تتبع التقاويم الأقدم.

بعد اغتيال يوليوس قيصر، أسَّسَ أوكتافيوس “Octavian” الامبراطورية الرومانية، وأصبحَ أول امبراطورٍ لروما. وفي بداية فترةِ حكمِه، قام الكهنةُ المسؤولون عن التقويم بجعلِ السنة الكبيسة كل ثلاثة أعوام بدلاً من أربعة، مما أحدث خَلَلاً في التزامنِ بين العامِ الشَّمْسِيِّ والعام اليولياني. فقرر أوكتافيوس “Octavian” – والذي سُمِيّ بالامبراطور أغسطس “Augustus”- تصحيحَ الوضع. وفي العام الثامن بعد الميلاد أعادَ الوضع إلى ما كان عليه، وعادت السنة الكبيسة كل أربعة أعوام، مما جعلَ مجلسَ الشيوخِ الرومانيِّ يرغبُ في تكريمِه، فأسْمَوْا الشهرَ الثامن من العام باسمه، شهر أغسطس، وذلك لأنه كان يتفاءَلُ بذلك الشهر، وله فيه العديد من الذكريات السعيدة. وكان شهرُ أغسطس يلي شهرَ يوليوس “Julius”، لكنه كان أقلَّ منه بيوم. ولأن أغسطس لا يقلُّ عظمةً عن يوليوس قيصر، قام الامبراطور بإنقاص يومٍ من الشهر المنحوس فبراريوس ليصبحَ ثمانيةُ وعشرينَ يوما، وأضافَ هذا اليومَ في شهره الإمبراطوري أغسطس !. ثم وجد أن هناك ثلاثةَ أشهُرٍمتتاليةٍ ذات واحدٍ وثلاثينَ يوما، فقام مرةَ أخرىً بإزالةِ أيامٍ من سبتمبر ونوفمبر، وأضافهم إلى أكتوبر وديسمبر. واستمر العملُ بالتقويم اليوليانيّ بهذا الشكل في شتّى أنحاء العالم حتى منتصف القرن السادس الميلادي، حين قرر مجمع تور “council of Tours” التابع للكنيسة الرومانية تغييرَ بداية العام من الأول من يناير إلى الخامس والعشرين من مارس. واستمر الوضعُ هكذا حتى القرن السادس عشر، حين تمَّ استبدالُ التقويم اليولياني بالتقويم الجريجوري( والذي سنتحدث عنه لاحقا). لكن، ما تزالُ العديد من كنائس الأرثودوكس الشرقية تستخدمُ التقويمَ اليولياني لتحديد مواعيد الأعياد حتى الآن.


تطور الساعات عند اليونان وروما

صورة 9

طوَّرت الحضارات اليونانية والرومانية مُخْتَلَفَ أنواعِ الساعات. فاخترع أفلاطون – الفيلسوف الشهير، وتلميذ سقراط، ومؤسس الأكاديمية في أثينا أول مدرسة أكاديمية غربية – ساعةٍ مائيَّةٍ ومُنَّبِهٍ مائيٍّ أيضاً، عند انتهاء سَيَلانِ الماء منه، تصطدمُ كُراتٌ رصاصيةٌّ بلوحِ معدنِيٍّ، ليوقِظَ الرنينَ طلابَ أكاديميَّتِه صباحَ كلِّ يوم. كما قامَ الفلكيُّ اليونانيُّ أندرونيكوس “Andronicus” في القرن الأول قبل الميلاد ببناء برج الرياح “Tower of the Winds” بأثينا. وكان البرج عبارة عن ساعة مائية عملاقة، ويعلوهُ تمثالٌ متحرِّكُ للإله ترايتون “Triton” ابن بوسيدون “Poseidon” إله البحر. وكان التمثالُ يُستَخْدَمُ لتحديدَ اتجاهَ الرياح. وكانت الساعات المائية تُسْتَخْدَمُ في قاعاتِ المحاكم وفي الأماكن الرسمية جميعِها، وكانت مشكلتها الرئيسيةُّ هي عدمَ الدقةَِ مقارنةً بالمزولة “sundial”، لكنَّها تعملُ ليلاً وبداخل الأماكن المغلقة، لذا اتجَّهَ اليونانيون لتطوير الساعاتِ المائية محاولينَ التغلبَ على تأثُّرِها باختلافِ ضغطِ الماء وسرعةِ تدفُّقِه. وطوّرُوا الكثيرَ من النماذجِ المختلفةِ والتي لم تكن أيضا عالية الدقة، واستخدموا بعض الأجزاءِ الميكانيكيّة، وأضافوا لها بعضَ الديكورات، كالأبواب التي تفتحُ على تماثيلَ مُصَغَّرة، أو أجراسٍ تُصْدِرُ أصواتاً عندَ مرورِ وقتٍ مُحَدَّد. وفي المرحلة الهيلينية استمرَّ العلماءُ في تطويرِ ساعاتٍ مائيَّةٍ بميكانيكيّاتٍ أكثرَ تعقيداً محاولينَ الحفاظَ على معدلِّ تدفقِ الماء. كما ركَّزوا أيضاً على الجانب الجماليِّ في تصنيع الساعات.

وبجانب الساعات المائية، استمرَّ الرومان في استخدام المزاولِ والساعاتِ الشمسيّة وأيضا المسلّات. وبفضل القوة العسكرية الرومانية، قامت روما بسرقةِ الكثيرِ من المسلّات من المناطق التي يُسَيْطِرونَ عليها، وكانت أولَّ مسلةٍ مسروقةٍ تصلُ لروما من مدينة “Catania” الإيطالية عام 264 قبل الميلاد، ولم تكن تٌعطي توقيتاً مضبوطاً، حتى قام العلماءُ بضبطِ العلاماتِ والزوايا عليها لتناسِبَ موقِعَ روما الفلكيَ. وقامَ الإمبراطورُ أغسطس “Augustus” في القرن الأول قبلَ الميلادي ببناءِ أكبرَ مِزولةٍ حينئذ “Solarium Augusti”، وكان الذراعُ المُسْتَخْدَمُ فيها عبارةً عن مَسَلَّةٍ مِصريَّةٍ من الجرانيت الأحمر، بناها في القرن السادس قبل الميلاد الملك بسماتيك الثاني ملك الأسرة السادسة والعشرين، في هليوبلس بمصر الفرعونية. ولم تكن هذه هي المسلة المصرية الوحيدة التي سرقها الرومان.


حضارات أمريكا الوسطى

بالتزامنِ مع حضاراتِ اليونان، وعلى الجانب الآخرِ من الأطلسي، كانت حضاراتُ أمريكا الوسطى القديمة قائمة، كالحضارة المسيسيبية “Mississippian culture”، والأولمِك “Olmec civilization”، والمايا “Mayan civilization”، وحضارة الأزتك “Aztec civilization” الأحدث نسبيا. وكانت تلك الحضارات تستخدم تقويماتٍ متشابهةٍ مع فُرُوقاتٍ بسيطة. وسأتحدَّثُ هنا عن أهمَّها وأكثرها تعقيداً، تقويمِ حضارة المايا.

كان لحضارة المايا تقويمِيْنِ مُتزامِنَيْن، مُدَّةُ العامِ في الأول 260 يوماُ، ويُسَمَّى التقويمَ المُقدَّس “tzolkin”، والآخر 365 يوماً، ويُسَمَّى التقويمَ الحائر “haab”. وكان التقويمُ المُقَدَّسُ يتكونُ مِن دورِتَيْنِ مُتلازمتَيْنِ وغيرَ مُتزامِنتين من الأيام وأسمائها، ومُرتَبِطَتَيْنِ بالأرقام المُقَدَّسةَِ عند المايا. فكانت دورة عدد الأيام تتكرَّرُ كلَّ ثلاثةِ عشرَ يوماً، بينما كانت دورة أسمائِها تتكونُ من عشرينَ اسماً مختلفاً. وكانَ هذا التقويمُ مُخصَّصاً لتنظيم العباداتِ والأعيادِ والشؤونِ العامَّةِ والتنبؤ بمواعيدِ الحروب، وتحديد مواعيدَ الزواج. أما التقويمُ الحائرُ فكان مُقَسَّما إلى ثمانيةَ عشرَ شهراً، كلُّ منها عشرونَ يوما. وبُنِيَ هذا التقويم على العام الشمسي، وذلك لمتابعةِ أحوال الزراعة وتبدُّلِ فصول العام. وفي آخر العام تأتي الخمسةُ أيام سيئة الحظ “Uayeb”، حيث كان يُعتَقَدُ أنَّ الآلهة يتغيَّبون استعداداً للعام الجديد، وكان أهلُ المايا يَخْشَوْن من حدوث الكوارث أو الموتِ أو المعارك، كما يتشاءَمون من المولودين في تلك الأيام. وكان التقويمان – المقدس والحائر – يتزامنان كلَّ اثْنَيْنِ وخمسينَ عاماً، وتُسمَّى تلك الفترة بالحزمة ( توازي القرن في تقويمنا الحالي ).


البابا يتحكم في التقويم

نعود لأوروبا مرة أخرى بعد مولد السيد المسيح عليه السلام. وفي تلك الفترة كانت أغلبَ مناطقَ أوروبا تعتمد على التقويم اليولياني، بينما تعتمد بعضُ الدول على حساب السنوات طبقا لتواريخ تربُّع الملوكِ على عروشهم “reignal years”. وذلك حتى جاء الراهبُ ديونيسيوس الصغير “Dionysius Exiguus” في القرن السادس، واخترع نظام “Anno Domini” وتعني بعد المسيح، حيث يبدأُ فيه عدُّ السنوات ابتداءً من تجسُّد المسيح “Incarnation of Jesus” حسبَ الديانة السائدة.

ثم في القرن الثامن، أطلقَ الراهبُ الأنجلوساكسونيُّ بيدا المُكّرم “Bede the Venerable” الكلمةَ اللاتينية “ante uero incarnationis dominicae tempus” وتعني ” الزمان ما قبلَ التجسدِّ الحقيقي للرب “، أي قبل ميلاد المسيح “before Christ”. وانتشر نظام “Anno Domini” بالتدريجِ في أوروبا بدايةً من القرن الحادي عشر، حيث كانت البرتغال هي آخر من تبناه عام 1422 بعد الميلاد.

في 1297 قام الفيلسوفُ الإنجليزي روجر باكون “Roger Bacon” بمهاجمة التقويم اليولياني مدفوعاً بشدة إيمانه وخوفه بسبب خطأ مواعيد الاحتفالات الدينية المسيحية المقدسة، نظراً لخطأ طول العام اليولياني مقارنة بالعام الشمسي بهامش 0.002%، وهو الخطأ الذي أدركه باكون بفضل الاكتشاف الفلكية اليونانية والإسلامية في ذلك الوقت. وحاول باكون اقناعَ البابا كليمنت الرابع “Pope Clement IV” بضرورة تعديل طريقة حساب السنوات في التقويم، وأوشك البابا على الاقتناع بالفعل، لكن وافتْهُ المنية قبل أن يتخذَ أيةَ قرار. وفي هذه العصور المظلمة فكريا – ومع سيطرة الكنيسة على كل شيء – أُلقِيَ القبض بعدها على باكون بسبب أفكاره وتجاربه، لكن أطلق سراحه بعد ذلك بفترة ليقضي بقيةَ حياته مُنْعَزِلاً ومُنْهَمِكاً في تجاربه.

ولم يتم الأخذ بملاحظات باكون حتى القرن السادس عشر، بعدما أصبح الفارقُ بين التقويم ومواسم الأعياد آنذاك حوالي عشرةَ أيام. ولاحظ الناس هذا الفارق بسبب تغير مواعيد الاعتدالين الربيعي والخريفي عن أوقات حدوثهِما الفعلي. فاستعان البابا جريجوريس الثالث عشر “Pope Gregory XIII” – بابا روما آنذاك – بخدماتِ الفلكي كريستوفر كالفوس “Christopher Clavius”، والذي عرف سبب المشكلة وطرح الحل. والحل كان في تغيير طريقة حساب السنة الكبيسة، لتكون كلَّ أربعة أعوامٍ كما هي، لكن مع استثناءِ الأعوام القابلة للقسمة على 100، عدا التي تقبل القسمة على 400، فتُصبِحُ كبيسةً هي الأخرى، وبهذا تم تعويض الخطأ. ولفهم الحل سنضربُ مثالاُ لذلك: سنة 1896 تقبل القسمة على 4، فهي سنة كبيسة، بينما سنة 1900 تقبل القسمة على 4 و 100 لكن ليس على 400، فهي سنة غير كبيسة، ونأتي لسنة 2000، وهي تقبل القسمة على 4 و 100 و كذلك على 400، فأصبحت سنةً كبيسة. وقرَّرَ البابا لإصلاح الخلل الحاليّ أن يصبحَ اليومُ التالي للخميس 4 أكتوبر عام 1582، هو يوم الجمعة 15 أكتوبر، تعويضا للعشرة أيام المسببةِ للأزمة، مع إقرار طريقة حساب السنة الكبيسة الجديدة، لينشأ التقويم الجريجوري “Gregorian calendar”. اعتمدت إيطاليا وأسبانيا والبرتغال وبولندا التقويمَ الجديد في حينِه ، وتأخَّرت ألمانيا حتى 1700، وتبعتها بريطانيا وأمريكا في 1752، وروسيا في 1918، وأخيراً تركيا 1927. والآن أصبح التقويم الجريجوري هو التقويمُ المدنيُّ الرسميُّ لكل دول العالم، ويُستَخْدَمُ في إدارة أغلب شؤون الحياة عدا الشؤون الدينية.


تطور الساعات في أوروبا

صورة 12

كانت أغلب الكنائس الأوروبية تستخدم ساعاتٍ برجيةٍ عملاقةٍ تَعملُ بطرقٍ ميكانيكيَّةٍ كالميزان أو التروس، وذلك لحساب أوقات العبادات. ولاحظ جاليليو جاليلي أثناءَ تجارُبِه إمكانيةَ استخدام البندول في حساب الوقت، لكنه لم يَقُم بتطبيقِ فكرته عملياً، حتى جاءَ العالِمُ الهولنديُّ كريستيان هوجنس”Christiaan Huygens” في القرنِ السابع عشر ليصنعَ أولَ ساعةٍ بندولِيَّة، وكانت من أكثر الساعات دِقَّة آنذاك بفارق دقيقةٍ يومياً، تَمَّ تقليصُهُ إلى عشرِ ثوانٍ يومياً. وفي 1675 اخترع الفيلسوفُ الإنجليزيُّ روبرت هوك “Robert Hooke” نابضَ الاتزانِ اللولبي، والذي استخدمَهُ صانعَ الساعاتِ توماس تمبيون “Thomas Tompion” في تصنيع أولِ ساعةِ جيب “pocket watch” دقيقةٍ في التاريخ.

في بدايةِ القرنِ العشرين، طلبَ الطيارُ الأوروبي ألبرتو سانتوس “Alberto Santos” من صديقِهِ صانعَ الساعات الفرنسي لويس كارتير” Louis Cartier” تصنيعَ ساعةٍ سهلةِ الاستخدام أثناءَ الطيران. فصنعَ لويس ساعةَ يدٍ لصديقه، وتُعتَبرُأولَّ ساعة يد ذات استخدام عملي في التاريخ. واستخدم الألماني هانز ويلسدورف “Hans Wilsdorf” الفكرة في تأسيسِ شركةٍ لتصنيع الساعات اليدوية، شركة رولكس الشهيرة. لكن لم يتقبلْ العالم ساعاتِ اليد – والتي كانت تستخدم كحِلًى ومجوهرات نسائية – حتى تمَّ استخدامُها من قِبَل الجنود والطيارين في الحرب العالمية الأولى على نطاقٍ واسع، مما أدى لانتشارها بعد الحرب بينَ المدنيين.

اخترع العالمُ السكوتلاندي ألكسندر بين “Alexander Bain” أولُ ساعةٍ تعمل ببطارية كهربية عام 1840. كما صنع العالمان وارن ماريسون “Warren Marrison” وهورتون “J. W. Horton” أول ساعة كوارتز عام 1927 اعتماداً على خاصيةِ الانْضِغاطِ الكهربيّ لبلوراتِ الكوارتز، وذلك في معملهم بكندا. وظلَّت ساعات الكوارتز تُسْتَخْدَمُ معملياً فقط، حتى استطاعت سيكو “Seiko” تصنيع أول ساعة كوارتز يدوية عام 1969.


وللحضارة الإسلامية إسهاماتها العظيمة

وصل الرسول صلى الله عليه وسلم – إبانَ الهجرة الشريفة – إلى المدينة المنورة في ربيع الأول، الموافق لسبتمبر من عام 622 ميلادية. وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قررَ عمر اعتماد سنة الهجرة كأول عام في التقويم الهجري الإسلامي. وهو تقويمٌ قمريٌّ مُكَوَّنٌ من اثنيْ عشرَ شهراً، ويُخالِفُ العامَ الشمسي بحوالي 11.2 يوماً. وأسماء الشهور في التقويم الهجري مأخوذةٌ من التقويم العربيّ القديم، حيث اجتَمَعَتْ قبائلُ العرب عام 412 ميلادية للاتفاقِ على توحيد أسماءِ الشهور العربية، واستقرُّوا على أسماءِ الشهورِ الحالية، من المُحَرَّم حتى ذي الحجة. ويعتمدُ المسلمونَ على التقويم الهجري في تحديد مواعيد الأعياد والصيام والحج، كما تعتمدُهُ بعضُ الدول المسلمة – كالسعودية – كتقويمٍ رَسْمِي.

طوَّرَ العلماء المسلمون الكثير من الساعات، والتي يتميَّزُ بعضُها بالدقة الشديدة. فقد صنع بديعُ الزمان الجَزرِيُّ – واحد من أهم علماء ومهندسي الأمةِ الإسلامية في القرن السادس الهجري – مجموعةً من أعقد وأدقِّ الساعاتِ آنذاك.
فصنع ساعةً شمعيَّةً “candle clock” تعملُ بآليةٍ تضمنُ ثباتَ معدلِّ احتراقِ الشمع، وقام بتصنيعِ ساعة الفيل “Elephant clock” وهي ساعة مائية مُزَوَّدَةٌ بآلياتٍ تجعلُها تُصْدِرُ أصواتاُ كلَّ نِصفِ ساعة، ومُصَمَّمَةٌ على هيئةِ فيل. كما قام ببناءِ ساعة القلعة “castle clock”، وتُعتَبَر ساعةُ فلكية – اسطرلاب – بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف، وتحتوي آلياتٍ معقدة. فكانَتْ تعرضُ الوقتَ ومدارَ الشمس والقمر والمجموعاتِ النجمية، كما كان يمكنُ إعادةَ ضبطِ تغيُّرِ طول الليل والنهار عليها، وبها باب يفتَح كل ساعة على تمثالٍ مختلف. وجَمَعَ الجَّزرِيُّ أعمالَه الميكانيكية في كتابِ “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل”، والذي كتبَهُ على مدارِ خمسةٍ وعشرينَ عاماً. كما قام المهندس المسلم محمد الساعاتي – في القرن السادس الهجري أيضا – ببناءِ ساعةٍ مائيَّةٍ عِملاقةٍ في المسجدِ الأُمَوِي بدمشق، تعلن عن الوقت كلَّ ساعة. وقام مهندسو بغداد ببناء ساعة في المدرسة المُستَنْصِريَّة تدقُّ في مواعيد الصلوات الخمس. واخترع المهندس الأندلسي ابن خلف المُرادِيّ أولَ ساعةٍ تستخدِمُ التروسَ المركبة “Gear” في القرن الخامس الهجري، وسجَّلَ اختراعاتِه الميكانيكيةِ في “كتاب الأسرار في نتائج الأفكار”.

وقامَ المسلمونَ أيضاً بتطويرِ المِزْوَلة، ففي القرنِ السابعِ الهجري طوَّرَ أبو الحسن بن الشاطرِ الفلكي والرياضي مِزولَةً جديدةً تتساوى فيها أطوالُ الساعاتِ طوال أيام العام اعتماداً على علمِ حساب المثلثات الذي طوَّرَهُ ابن جابر البَتّاني. وكان أبو الحسن هو المسؤولُ عن تحديدِ مواقيتِ الصلاة الدقيقة في الجامع الأموي. ومن إنجازاتِهِ أيضاً أنَّهُ سبق كوبرنيكوس بقرونٍ في نقدِ نظريةِ مَرْكَزِيَّة الأرض، وأثبتَ فلكِيًّا أنَّ الأرض تدورُ حول الشمس، بينما يدور حولها القمر.


الساعة الذرية، الأدق حتى الآن

atomic-clock-764x509

وأدقُّ ساعة صنعها الإنسانُ حتى الآنَ هي الساعةُ الذرية “Atomic clock”، حيث يبلغ انحرافها عِدَةَ ثوانٍ كلَّ بضعةِ آلافِ سنة. وتُسْتَخْدَمُ الساعاتُ الذرية لضبطِ مواقيت جميع الساعات الأخرى. ومنذ اقترح اللورد كلفن “The Lord Kelvin” فكرتها عام 1879، لم يستطِعْ أحدٌ تصنيعَها حتى عام 1949، حين قامَ المعهد الوطنيِّ للمعاييرِ والتكنولوجيا بأمريكا “NIST” بهذه المهمة.

واستمرَّ تطويرُها لتصبحَ الأكثرَ دِقَّةً حتى الآن، وتمَّ ضبطُها حسْبَ التوقيتِ الفلكيّ للأرض “Ephemeris time”. ويستخدِمُ المعهدُ الآنَ ساعةَ السيزيوم الذريةِ الأكثرَ دقةً في العالم – بمعدل خطأٍ يبلغُ 30 جزءاً من المليار جزءٍ من الثانية في العام ! – في ضبطِ المعاييرِ العالمية لقياسِ الوقت، وتحديدِ طول الثانية نسبةً للنشاط الإشعاعي للساعة.

المصادر

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18

الخرائط

ذو صلة

1 2


Notice

أحلى ماعندنا ، واصل لعندك! سجل بنشرة أراجيك البريدية

بالنقر على زر “التسجيل”، فإنك توافق شروط الخدمة وسياسية الخصوصية وتلقي رسائل بريدية من أراجيك

عبَّر عن رأيك

إحرص أن يكون تعليقك موضوعيّاً ومفيداً، حافظ على سُمعتكَ الرقميَّةواحترم الكاتب والأعضاء والقُرّاء.

ذو صلة